صالح الرفاعي... فوتوغرافيا لجراح الحرب والسلم
تاريخ الاضافة:الأربعاء 15 تموز / يوليو 2020 11:17 مساءً عدد الزيارات:3539صورة فوتوغرافية واحدة، التقطها نيك أوت إبّان الحرب الأميركية على فيتنام ، عُرفت باسم "فتاة النابالم"، كانت كفيلةً ليعيد العالم حساباته تجاه ما يحصل، لتضع الحرب، تدريجياً، أوزارها. إنّ هذا النمط من الفوتوغرافيا المُلتصق بمسام الحرب وجمالياتها، ألهم منذ سبعينيات القرن المنصرم العديد من الفوتوغرافيين من العالم العربي، ممن سخروا آلاتهم الفوتوغرافية لخدمة الإنسان والدفاع عن كرامته المسلوبة من الأنظمة السياسية التنكيلية. نذكر هنا، على سبيل المثال لا الحصر، تجربة الفنّان الفوتوغرافي اللبناني صالح الرفاعي، الذي كرس حياته لهذا الفنّ. وإذا كانت الصورة في عموميتها تروم إلى تصوير الواقع والبحث عن جماليّات تُصوّر ميكانيزمات هذا الواقع على ما ليس عليه، فإنّ الصورة الفوتوغرافية لدى صالح الرفاعي، بسبب حساسيتها تجاه التاريخ، تروم إلى الكشف والإظهار، وهي تهّم إلى التقاط تفاصيل صغيرة ودقيقة من حياة الناس، وسجنها داخل إطار فنيّ، الذي هو أشبه بالقبض عن حقيقة وجودنا أمام بشاعة الحرب وهول الحياة اليومية الرتيبة.
لذلك، لطالما اعتبرت فوتوغرافيا الرفاعي فناً صادقاً وجريئاً في الكشف عن مكبوت الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) ومخزونها الاضطهادي، الذي عرته فوتوغرافيا الرفاعي وعملت على إظهاره للعالم. لذلك؛ فهو اليوم يعد في طليعة الفوتوغرافيين العرب في الحقبة المعاصرة، ممن كرسوا حياتهم لهذا اللون الفني من الفوتوغرافيا، التي تمزج بين جرح الحرب والسلم خلال فترات مُتباعدة ومتناقضة داخل المجتمع اللبناني، فهو حريص على الحفر داخل واقعه بكل أفراحه وأحزانه، لفهم الرجّات التي طاولت تاريخ البلد سياسياً واجتماعياً، ومدى تأثير الحرب الأهلية اللبنانية على أحوال الناس وسلوكاتهم تجاه الواقع ومصير البلد. قد يستغرب المرء من قدرة الفنان على تشكيل فوتوغرافيته من عوالم واقعية يموضعها داخل بنية المُتخيّل، انطلاقاً من كل ما هو آني وعابر وزائل وهامشي وسطحي ولا مُفكّر فيه، بحيث تغدو هذه الأشياء أكثر قيمة من الأحداث السياسية التي يشهدها البلد، فهو ينقب في عدد من أعماله القوية والمهمة إلى تناول بشاعة الحرب الأهلية اللبنانية، مُتجاوزاً الأبعاد السياسية لهذه الحرب، ومُركزاً من خلالها على الألم الذي تحفره هذه الحرب في نفوس البشر، عاملاً على سبر أغوار هذا الألم وتتبع صوره بين الناس والأمكنة والأطلال، بطريقة تبدو معها هذه الأعمال وكأنها قد اخترقت بنية الاجتماع اللبناني لتتشابك مع أسئلة حقيقية تخص الإنسان العربي كافة ومسارات تحرره منذ سبعينيات القرن الماضي إلى حدود الآن، انطلاقاً من الحرب اللبنانية وجرحها الذي لم يندمل بعد.
هكذا، تتخذ فوتوغرافيا الرفاعي طابع المقاومة الشرسة، التي تنقل حيثيات هذه الحرب، إذْ إنّ الكاميرا لديه لا تعمل على تحويل الواقع اللبناني إلى أشياء وأبعاد جمالية كوسيلة لإضفاء نوع من الحقيقة على هذا التحوير الفني، فعنف الواقع وفداحة الحرب أقوى بكثير من أيّ نيّة جمالية، لذلك جاءت العديد من صوره الفوتوغرافية رافضة لهذه الحرب، بل هي تدخل في عملية مقاومة معها من خلال التركيز في بعض الصور على السُلطة السياسية المُتمثلة في الأمن والجنود وسواهما من أشكال السُلطة داخل الحياة العامة اللبنانية من أجل إظهار ما لا يُرى للعالم، وما لم تسلط القنوات الرسمية الضوء عليه.
وبالتالي فهي تظلّ مرتبطة باللحظة، خلافاً لألوان الصورة الفوتوغرافية المعاصرة المُركبة وقدرتها على التفكير المُسبق من خلال تجميل المشاهد، قبل بدء فعل التصوير. بهذا الفهم والمعنى يتبلور العمل الفوتوغرافي عند صالح الرفاعي، بوصفه شهادات تهمس بجرح مُنفلت لم يندمل بعد، عن ماضٍ ولحظة وإحساس ومقاومة إنسانية والقبض على ديمومة الإنسان داخل صورة فوتوغرافية أقرب إلى الحقيقة منها إلى الخيال، بسبب واقعيتها المحمومة بالرفض والمقاومة لطبيعة وشكل الحرب في عموميتها وتطلعها الدائم إلى السلم. أليست هذه الفوتوغرافيا في نهايتها إدراك كليّ وتفرّد باللحظة، لأنها لا تعمل على نسخ هذا الواقع، إلاّ مرة واحدة و"تُكرّر ميكانيكياً ما لا يُمكن أن يتكرّر وجودياً"، على حدّ تعبير بارت؟